Powered By Blogger

الخميس، 7 أكتوبر 2010

ورقات في الإجماع الأصولي

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله الذي نهى عن مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وتوعد عليها، وأمر باتباع سبيل المؤمنين وحذر من خالفته فقال:﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ والصلاة والسلام على النبي المصطفى الذي أمر في غير ما حديث بلزوم الجماعة، ونفر وحذر من الشذوذ عنها ومفارقتها، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين... وبعد فإن الإجماع من المسائل التي تناولها علماؤنا قديما وحديثا بالدراسة والشرح والتفصيل، وذلك لما له من أهمية في سلم الأدلة الشرعية، فهو ثالث مصدر للتشريع الإسلامي بعد كتاب الله تعالى، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ومنهما استمداده، وإليهما امتداده، وموضوع كهذا لا تخفى الفائدة من مراجعته ومحاولة قراءته قراءة متأنية من مصادره الأولى، للخروج من ذلك بخلاصة خالصة من المجادلات المنطقية والكلامية التي نجدها في كثير من تراثنا الأصولي، نستطيع من خلالها تكوين تصور عام ومركز في الوقت نفسه عن مسائل هذا الموضوع المهم، ومن هنا جاءت هذه القراءة، أو هذا العرض الذي أقدمه أمام أستاذنا الفاضل عبد الله ولد اسلم – حفظه الله – منتظرا التوجيه والإرشاد، وبين يديكم أيها الإخوة الزملاء، لتأخذوا سمينه وتتركوا غثه، وتسددوا وتقربوا، وما كان في هذا من صواب فمن توفيق الله، وما كان غير ذلك فأستغفر الله وأتوب إليه، فالعهدة علي وحدي. ونظرا للظرف الزمني لهذا العرض فقد حاولت التركيز على النقاط الأساسية والمهمة في الموضوع مع العلم بتشعبه، وتفرقه في شتى المصادر والمراجع الأصولية، فكانت النقاط التي تناولتها ما يلي: المطلب الأول: تعريف الإجماع، لغة واصطلاحا المطلب الثاني : مكانته وحجيته المطلب الثالث: أنواع الإجماع المطلب الرابع: شروط انعقاد الإجماع المطلب الخامس: الحكمة من الإجماع وفوائده ثم تتطرقت لبعض المسائل المتعلقة بالإجماع، كمسألة تطرق النسخ له، وإمكان الاطلاع عليه، وقضية المجامع الفقهية، وهيآت الافتاء في الدول الإسلامية. وأثبت أخيرا أهم المصادر التي رجعت إليها في جمع مادة هذا العرض فإلى المحاور الأساسية للموضوع. المطلب الأول: تعريف الإجماع: أ‌- الإجماع في الإطلاق اللغوي الإجماع في الإطلاق اللغوي يفيد معان كلها تدور حول معنى العزم والاتفاق، فيطلق ويراد به العزم على الأمر، أو الاتفاق عليه، أو الإعداد له، أو جمعه بعد تفرق . ب‌- الإجماع في الاصطلاح الأصولي: تعددت ألفاظ الأصوليين وعباراتهم في تحديد معنى الإجماع، وبيان المقصود به تبعا لاختلافهم في كثير من مسائل الإجماع، وفيما يلي عرض لبعض تلك التعاريف دون مناقشتها، ولا مراعاة التسلسل الزمني في هذا العرض، وإنما يعقبها الباحث بالتعريف المختار للإجماع، والذي سيركز عليه خلال هذا العرض: - اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة على أمر من الأمور الدينية . - ما اتفق أن جميع الصحابة رضي الله عنهم قالوه ودانوا به عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وليس الإجماع في الدين شيئا غير هذا . - عبارة عن اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور . - اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة . - عبارة عن اتفاق جملة أهل الحل والعقد من أمة محمد في عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع . التعريف المختار للإجماع: اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في عصر على أي أمر كان . هذا التعريف يعتبر أجمع وأمنع تعريف للإجماع وقد اعتمده وأخذ به كثير من العلماء قديما وحديثا، ولكي يتضح ذلك سنقوم بتبسيط التعريف كلمة كلمة: قوله: " اتفاق " يشتمل على معنى الاشتراك في الرأي أو الاعتقاد، سواء دلّ عليه الجميع بأقوالهم جميعاً، أم بأفعالهم جميعاً، أم بقول بعضهم وفعل بعض، وهذا كله يسمى بالإجماع الصريح، أم بقول بعض أو فعله مع سكوت بعض آخر، وهذا يسمى بالإجماع السكوتي، وبهذا يكون التعريف شاملاً لقسمي الإجماع: الصريح والسكوتي. قوله: " مجتهدي الأمة" المقصود بالمجتهد هو الذي يبذل وُسعه في طلب الظن بحكم شرعي على وجه يُحس معه بالعجز عن المزيد عليه. وهذا القيد أخرج غير المجتهدين الذين لم تتوفر فيهم صفات وشروط الاجتهاد، وهم العوام والمقلدون، والأمة هي الطائفة من الناس والمقصود بها هنا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أي أمة الإجابة لا أمة الدعوة ، وقد خرج بهذا القيد اتفاق غير هذه الأمة كاتفاق اليهود والنصارى أو غيرهم من الأمم التي لم تدخل في دين الإسلام، كما تدل عبارة " مجتهدو الأمة" على أن الإجماع يجب أن يكون من جميع المجتهدين وليس من بعضهم مع مخالفة البعض الآخر. قوله: " بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم" يفيد أن الإجماع في حياته - صلى الله عليه وسلم- غير معتبر، كما قال الآمدي:( وإجماع الموجودين في زمن الوحي ليس بحجة في زمن الوحي بالإجماع، وإنما يكون حجة بعد النبي عليه السلام) . قوله: " في عصر" يفيد إمكان وقوع الإجماع من مجتهدي كل عصر من العصور، ويدفع توهم أن الإجماع لا يقع إلا باتفاق المجتهدين في جميع العصور كما ذهب إلى ذلك جمع من العلماء . قوله: " على أي أمر كان" أي الحكم الذي اتفق عليه المجتهدون، ويشمل: 1- الأمر الديني: كأحكام الصلاة، وتفسير آية أو حديث. 2- الأمر الدنيوي: كترتيب الجيوش والحروب، وتدبير أمور الرعية. 3- الأمر العقلي: كحدوث العالم. 4- الأمر اللغوي: ككون الفاء للترتيب والتعقيب المطلب الثاني: مكانته وحجيته الإجماع يعتبر المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي بعد الكتاب والسنة، وهو حق مقطوع به في دين الله عز وجل، وأصل عظيم من أصول الدين، واستمداده من كتاب الله الكريم، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-. وقد وقع اتفاق أكثر المسلمين على أن الإجماع حجة شرعية يجب العمل به على كل مسلم، خلافا للشيعة والخوارج والنظام من المعتزلة، قد احتج أهل الحق في ذلك بالكتاب والسنة والمعقول .. فأما الكتاب فقوله تعالى:﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ النساء الآية 115 ووجه الاحتجاج بالآية أنه تعالى توعد على متابعة غير سبيل المؤمنين، ولو لم يكن ذلك محرما لما توعد عليه، ولما حسن الجمع بينه، وبين المحرم من مشاقة الرسول - عليه السلام- في التوعد، كما لا يحسن التوعد على الجمع بين الكفر وأكل الخبز المباح ، فعلم من الآية وجوب اتباع سبيل المؤمنين ولا شك أن ما اجتمعت الأمة المؤمنة على قبوله أو منعه هو سبيل المؤمنين، وهناك آيات أخرى تفيد حجية الإجماع، والقول فيها مبسوط في محله. وأما دليل الإجماع من السنة فما روي عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ يَسْأَلُهُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَن اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ. وفي رواية:( بما أجمع عايه الناس) . ووجه الاستدلال بهذا الأثر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رتب لقاضيه الأدلة الشرعيةن ومصادر التشريع الإسلامي فذكر بعد الوحيين المصدر الثالث وهو ما قضى به الصالحون، وهو ما أجمعوا عليه واتفقوا عليه كما تفيده الرواية الثانية. وقد أورد شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا السياق مجموعة من الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم كلها تفيد هذا المعنى، ومن ذلك ما أثر عن ابن مسعود – رضي الله عنه – "أنه كان يقدم الكتاب ثم السنة ثم الإجماع" وكان ابن عباس – رضي الله عنه – يفتي بما في الكتاب ثم بما في السنة ثم بسنة أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما- لقول الرسول صلى الله عليه وسلم :( اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر) ، ثم قال رحمه الله تعالى:" وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس، وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء وهو الصواب" . وأما المعقول فكما يؤكد الآمدي – رحمه اله تعالى - بقوله:( أن الخلق الكثير، وهم أهل كل عصر إذا اتفقوا على حكم قضية وجزموا به جزما قاطعا، فالعادة تحيل على مثلهم الحكم والجزم بذلك والقطع به، وليس له مستند قاطع بحيث لا يتنبه واحد منهم إلى الخطإ في القطع بما ليس بقاطع. ولهذا وجدنا أهل كل عصر قاطعين بتخطئة مخالف ما تقدم من إجماع من قبلهم، ولولا أن يكون ذلك عن دليل قاطع، لاستحال في العادة اتفاقهم على القطع بتخطئة المخالف ولا يقف واحد منهم على وجه الحق في ذلك) . المطلب الثالث: أنواع الإجماع الإجماع من حيث دلالته ينقسم إلى قسمين: الأول: الإجماع القطعي، وهو ما ثبت بدليل يفيد القطع، وقطع فيه بانتفاء المخالف، وهذا النوع من الإجماع لا يمكن أن يقع على خلاف النص الثابت، يقول ابن تيمية – رحمه الله تعالى – مقررا هذا المعنى :" لا سبيل إلى أن يعلم إجماع قطعي على خلاف النص" ويدخل في هذا النوع المعلوم من الدين بالضرورة، ويجب الاحتجاج به، ويفيد العلم والعمل معا، ولا تجوز مخالفته بحال، ويقدم على النص، لأنه في في الحقيقة تقديم للنصوص القطعية الثبوت والدلالة، إذ لا يمكن أن يكون ثبوت النوع من الإجماع إلا عن طريق يفيد القطع، ولا بد أن يكون مستنده نصا من كتاب أو سنة فتقديمه في النهاية تقديم لذلك المستند القرآني أو الحديثي الذي استند عليه الإجماع، وليس في حقيقة الأمر تقديما للإجماع على النص كما قد يتوهم البعض. الثاني: الإجماع الظني وهو الإجماع الإقراري والاستقرائي بأن يستقرئ أقوال العلماء فلا يجد في ذلك خلافا، أو يشتهر القول في القرآن ولا يعلم أحدا أنكره . الاحتجاج بالإجماع الظني: يحتج عند الجمهور بالإجماع الظني، ولكنه وإن جاز الاحتجاج به فلا يجوز أن تدفع النصوص به، لأنه حجة ظنية لا يجزم الإنسان بصحتها، فإنه لا يجزم بانتفاء المخالف، فإن قطع بانتفاء المخالف فالإجماع قطعي – كما تقدم – وأما إن كان يظن عدمه ولا يقطع به فهو حجة ظنية، والظني لا يدفع به النص المعلوم، لكن يحتج به، وبقدم على ما هو دونه بالظن، ويقدم عليه الظن الذي هو أقوى منه، فمتى كان ظنه لدلالة النص أقوى من ظنه بثبوت الإجماع قدم دلالة النص، ومتى كان ظنه للإجماع أقوى قدمه، والمصيب في نفس الأمر واحد ، وهذا النوع من الإجماع يفيد وجوب العمل دون العلم. وينقسم الإجماع باعتبار كيفية وقوعه إلى قسمين: الأول: الإجماع الصريح، وهو -كما تقدم في تعريف الإجماع- ما دل عليه الجميع بأقوالهم جميعا، أم بأفعالهم جميعا، أم بقول بعضهم وفعل بعض، وقد يطلق عليه البعض العزيمة الثاني: الإجماع السكوتي، وهو ما دل عليه قول بعض أم فعله مع سكوت البعض الآخر بعد العلم به، وفي هذا النوع من حيث تسميته إجماعا أو الاحتجاج به أقوال مبسوطة في كتب الأصول وليس هذا محل سردها، وأصحها أنه إجماع وحجة وإن كان دون النوع الأول . المطلب الرابع: شروط انعقاد الإجماع لا بد لانعقاد الإجماع من توفر جملة من الشروط والضوابط التي إن تخلَّف بعضها كان الإجماع باطلا، وهذه الشروط منها ما هو محل اتفاق بين العلماء، وما هو محل اختلاف الآراء وتباين وجهات النظر، وفيما يلي عرض لهذه الشروط وبيان المتفق عليه والمختلف فيه: الشرط الأول: أن يكون الإجماع عن مستند الإجماع يجب أن يكون مستندا إلى دليل شرعي، يقول الآمدي:" اتفق الكل على أن الأمة لا تجتمع على الحكم إلا عن مأخذ ومستند يوجب اجتماعها خلافا لطائفة شاذة، فإنهم قالوا بجواز انعقاد الإجماع عن توفيق لا توقيف بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب من غير مستند" . وقد استدل الجهور على هذا بأن الإجماع اجتهاد، بل هو مجموع اجتهاد المجتهدين، والاجتهاد معناه بذل الجهد في استخراج الحكم من دليله، فكان الإجماع كذلك، إذ ليس التشريع بدون دليل اجتهادا، بل تحكما، وهو ممنوع شرعا. إن إجماع الأمة جميعها دون خلاف واحد فيها دليل على وجود الدليل، لأن العقل يحيل عادة اجتماع آراء المجتهدين جميعا دون خلاف واحد منهم من غير دليل يستند إليه هذا الإجماع، وذلك اعتمادا على تعدد المشارب والاتجاهات الفكرية، وطرق الاستنباط، فكان قيام الدليل واستناد الإجماع إليه ضرورة عقلية. هنا مسألة وهي: ما نوع الدليل الذي يكون مستندا للإجماع؟ اتفق العلماء على أن الكتاب والسنة يكونان مستندا للإجماع، واختلفوا في الاجتهاد والقياس، فجوزه الأكثرون، لكن اختلفوا في الوقوع نفيا وإثباتا. والقائلون بثبوته اختلفوا فمنهم من قال إن الاجماع مع ذلك يكون حجة تحرم مخالفته، وهم الأكثرون، ومنهم من قال لا تحرم مخالفته، لأن القول بالاجتهاد في ذلك يفتح باب الاجتهاد ولا يحرمه ، ولكل فريق أدلته وبراهينه التي اعتمد عليها والذي يظهر منع كون الاجتهاد والقياس مستندا للإجماع، قال صاحب اللمع:" اعلم أن الاجماع لا ينعقد إلا على دليل فإذا رأيت إجماعهم على حكم علمنا أن هناك دليلا جمعهم سواء عرفنا ذلك الدليل أو لم نعرفه ويجوز أن ينعقد على كل دليل يثبت به الحكم كأدلة العقل في الأحكام ونص الكتاب والسنة وفحواهما وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره والقياس وجميع وجوه الاجتهاد" . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية:( كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمخالف لهم مخالف للرسول -صلى الله عليه وسلم- كما أن المخالف للرسول -صلى الله عليه وسلم- مخالف لله تعالى، لكن هذا يقتضي أن كل ما أُجمع عليه قد بينه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو الصواب، فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول -صلى الله علسه وسلم- لكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص... ولا يوجد مسألة متفق عليها إلا وفيها نص..) . ثم بعد ذلك سرد مجموعة من القضايا التي قيل أن مستندها الاجتهاد أو القياس فذكر النصوص التي خفيت على بعض المجتهدين في ذلك، وأعقب ذلك بقوله:( وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصا، فقالوا باجتهاد الرأي الموافق للنص لكن النص كان عند غيرهم) . فعلم من هذا أن الإجماع وإن توهم أنه استند إلى اجتهاد أو قياس فإنما ذلك لخفاء النص عن المجتهد، وقد يكون لدى غيره من المجتهدين، وبهذا يكون الخلاف في هذه المسألة مما يمكن إرجاعه إلى اللفظ، وقد يكون مستند الإجماع معروفا لكن يستغنى عن ذكره بذكر الإجماع، أو ينسى الدليل أصلا، ولا يكون ذلك مما يقدح في صحة الإجماع وثبوته. الشرط الثاني: أن يكون الإجماع صادرا من جميع مجتهدي العصر فلا ينعقد الإجماع بقول الأكثر ومخالفة الأقل، وإن كان المخالف واحدا ممن يعتد بخلافه حسب ما عليه الجمهور، وذهب جماعة إلى انعقاده باتفاق الأكثر مع مخالفة الأقل، وقد تمسك الجمهور بأمرين: الأول: أن التمسك في إثبات الإجماع حجة إنما هو بالأخبار الواردة في السنة الدالة على عصمة الأمة، ولفظ الأمة إنما يكون المراد به جميع الموجودين. الثاني: وقوع مثل ذلك في زمن الصحابة رضوان الله عليهم، حيث اتفق أغلبهم على رأي وخالفهم قلة، ومع ذلك لم ينكروا عليهم مخالفة قولهم بل سوغوا لهم ذلك فلو كان الإجماع ينعقد بقول الأكثر وهو حجة قطعية لما جاز أن يخالفه أحد، ومثال ذلك اتفاق الصحابة على عدم قتال مانعي الزكاة ومخالفة أبي بكر – رضي الله عنه - لهم، كذلك خلاف أكثر الصحابة لما انفرد به ابن عباس في مسألة العول وتحليل المتعة وأنه لا ربا إلا في النسيئة . فعلم من هذا أن الإجماع يجب أن يقع من جميع مجتهدي الأمة، ولكن يذكر هنا أن قول الأكثر، وإن لم ينعقد به الإجماع يبقى ذا ثقل في الترجيح وأولى بالاتباع. الشرط الثالث: أن يكون الإجماع صادرا من العلماء المجتهدين المجمعون يجب أن يكونوا من العلماء الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، فاختصاص الإجماع إنما هو بالمجتهدين من الأمة فقط ولا اعتبار بوفاق ولا خلاف غيرهم من العوام، وحتى إن اعتبر اتفاق العوام فلا تناقض، والعامي في هذا الباب يقصد به كل من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد وإن كان ذا علم، وكذلك من بلغ الاجتهاد في فن غير هذا الفن فهو عامي في هذا الاختصاص كالمتفنن في علم اللغة والنحو، أو دقائق الحساب.. ويلاحظ أن هذا الشرط وتالييه إنما هو تفصيل لمن يعتبر قوله في الإجماع، فشرط بلوغ رتبة الاجتهاد، والحياة والعدالة كلها صفات يجب توفرها في المجمعين. الشرط الرابع: أن يكون المجمعون أحياء موجودين المعتبر في المجمعين هم الأحياء الموجودون، فلا اعتبار بالأموات، كما لا اعتبار بمن لم يولد بعد أو ولد لكنه في حكم من لم يوجد كالصبي ومن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد وقت انعقاد الإجماع. وهنا اختلف العلماء في اشتراط انقراض عصر المجمعين ولم يرجع أحدهم، فالذي عليه الجمهور عدم اشتراط الانقراض وأن الإجماع ينعقد ولو لحظة، وحيث وقع ليس لأحد الرجوع وإن رجع فلا يقدح ذلك في انعقاد الإجماع إذ لا اعتبار به أصلا، وذهب آخرون منهم الإمام أحمد – رحمه الله – إلى اشتراض الانقراض، وفصل بعضهم فاعتبروه في الإجماع السكوتي، ولم يشترطوه في الإجماع الصريح، واحتج من اشترط الانقراض بأن الإجماع إنما صار حجة بطريق الكرامة بناء على وصف الاجتماع فلا يثبت الإجماع إلا باستقرار الآراء واستقرارها لا يثبت إلا بانقراض العصر.. لجواز كون البعض قبله في تأمل وتفحص.. وقد تمسك الجمهور بأن الإجماع إنما ثبت بالنصوص الواردة من الكتاب والسنة، وهذه النصوص لم تفصل بين ما إذا انقرض العصر ولم ينقرض... فلا يصح زيادة اشتراط لم تشترطه النصوص .. وكذلك فإنا لو اشترطنا الانقراض لم يثبت الإجماع أبدا، وذلك لأن الأعصار تتداخل فيما بينها فكلما اتفق الناس على حادثة فقبل أن ينقرض جميع المجمعين على حكم تلك الحادثة جاء من تتوفر فيه شروط الاجتهاد فنعتبر وفاقه وخلافه وهكذا إلى ما لا نهاية. واستنادا لما تقدم توضيحه يرى الباحث أن القول الصحيح هو أن انقراض العصر غير مشترط في انعقاد الإجماع، فإذا اتفقت كلمة الأمة ولو لحظة انعقد الإجماع ، ويبقى هنا أن نشير إلى أن القول باشتراط الانقراض في الإجماع السكوتي مسلك قوي، وقد اختاره الآمدي الشرط الخامس: أن يكون المجمعون عدولا مذهب الجمهور اشتراط العدالة في المجمعين، وعليه لا يتوقف الإجماع على موافقة ولا مخالفة الفاسق والمبتدع وغيرهما ممن انتفت فيه صفة العدالة، وقد تمسك الجمهور بأن الأدلة التي دلت على حجية الإجماع تتضمن العدالة وبخاصة قوله تعالى:((وكذلك جعلناكم أمة وسطا)) }البقرة. الآية {341 إذ الوسط: العدل ، ولأن غير العدل أو جب الله التوقف في أخباره بقوله تعالى:(( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبيونا)) }الحجرات، الآية: 6 { واجتهاده إخبار بأن رأيه " كذا" فيجب التوقف في قوله. ومن العلماء من اعتبر قول المجتهد الفاسق يقول صاحب اللمع:" ويعتبر في صحة الإجماع اتفاق كل من كان من أهل الاجتهاد سواء كان مدرسا مشهورا أو خاملا مستورا وسواء كان عدلا أمينا أو فاسقا متهتكا لأن المعول في ذلك على الاجتهاد والمهجور كالمشهور والفاسق كالعدل في ذلك.." وللعلماء تفصيل طويل في قول المبتدع من حيث قبول قوله ورفضه، كل ذلك مبسط في محله، وإن كان قول الجمهور مضى بعدم الاعتداد بقول المبتدع مطلقا. المطلب الخامس: الحكمة من الإجماع وفوائده وأما عن السر والحكمة في اختصاص أمة محمد – صلى الله عليه وسلم - بالإجماع فيقول الإمام الزركشي – رحمه الله تعالى- :" والسرّ في اختصاص هذه الأمة بالصواب في الإجماع أنهم الجماعة بالحقيقة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- بُعث إلى الكافة، والأنبياء قبله إنما بُعث النبي لقومه، وهم بعض من كل، فيصدق على كل أمة أن المؤمنين غير منحصرين فيهم في عصر واحد، وأما هذه الأمة فالمؤمنون منحصرون فيهم، ويد الله مع الجماعة، فلهذا - والله أعلم - خصّها بالصواب.." وأما فوائد الإجماع فكثيرة ومن أهمها ما يلي: الفائدة الأولى: الإجماع على المعلوم من الدين بالضرورة يُظهر حجم الأمور التي اتفقت فيها الأمة؛ بحيث لا يستطيع أهل الزيغ والضلال إفساد دين المسلمين، ومن طالع حال الأمم السابقة من أهل الكتاب وغيرهم، في اختلافهم في أصول دينهم العلمية والعملية علم النعمة العظيمة التي اختُصت بها هذه الأمة؛ حيث أجمع أئمة الدين على مئات من الأصول بله الفروع، بحيث لا يخالف فيها أحد من المسلمين، وممن خالف بعد العلم حُكِم عليه بما يقتضيه حاله من كفر أو ضلال وفسق. الفائدة الثانية: العلمُ بالقضايا المجمع عليها من الأمة يعطي الثقة التامة بهذا الدين، ويؤلف قلوب المسلمين، ويسدّ الباب على المتقولين الذين يزعمون أن الأمة قد اختلفت في كل شيء؛ فكيف يجمعها أو يربطها رابط؟! الفائدة الثالثة: أن السند الذي يقوم عليه الإجماع قد يكون ظنياً فيكون الإجماع عليه سبباً لرفع رتبة النص الظنية والحكم المستنبط منه إلى رتبة القطع؛ لأنه قد دلّ الإجماع على أنه لا خبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يخالف ما أجمعوا عليه. الفائدة الرابعة: تحتمل النصوص في جملتها التأويل والتخصيص والتقييد والنسخ وغيره، فإذا كانت هي المرجع وحدها كثر الخلاف بين الأئمة المجتهدين الذين يستنبطون الأحكام منها، لاختلاف المدارك والأفهام، فإذا وجد الإجماع على المراد من النص ارتفعت الاحتمالات السابقة، واتقى المجتهدون بذلك متاعب الخلاف والنظر والاستنباط. الفائدة الخامسة: بعض النصوص من السنة التي هي مستند الإجماع قد يكون هناك خلاف في صحتها فيكون الإجماع على مضمونها قاطعا للنزاع الناشئ من اختلافهم في تصحيحها . والفوائد من الإجماع كثيرة، ولعل فيما ذكر كفاية، وقبل ختام هذا العرض لا بد من الإشارة لبعض المسائل والتأكيد عليها دون الدخول في التفاصيل، وهي: المسألة الأولى: هل يتطرق النسخ إلى الإجماع؟ إذا ثبت انعقاد إجماع الأمة -بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع- على حادثة معينة في عصر من العصور فهل يصح أن يحدث الناس إجماعا آخر في تلك الحادثة بعينها على حكم مخالف للأول المجمع عليه يكون ناسخا له أم لا؟ الذي عليه الجمهور من العلماء أن الإجماع لا ينسخ كما ينسخ النص، ولا يختص كما يختص المفهوم، بل يجب استصحابه أبدا . المسألة الثانية: إمكان الاطلاع على الإجماع وقع الخلاف بين العلماء قديما في إمكان الاطلاع على الإجماع، فيرى الجمهور إمكانه، ورأى آخرون عدم الإمكان بعد عهد الصحابة وذلك لأن الناس تفرقوا في البلدان بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية مما قد يستحيل معه الوقوف على قول كل مجتهد، وفعلا وإن لم يكن ذلك مستحيلا – حسب الجمهور – فإنه من الصعوبة بمكان، غير أن الأوضاع تغيرت في عصرنا الحاضر حيث أصبح العالم كقرية واحدة بسبب التطور المذهل السريع في وسائل الاتصال، مما يجعلنا متأكدين من أن كثيرا من أسلافنا الذين منعوا إمكان الاطلاع على أقوال العلماء المتفرقين في البلدان لو كان مقدرا لهم أن يعيشوا في هذا العصر لغيروا موقفهم ذاك. لقد أصبحت معرفة الإجماع من الأمور السهلة لو أن الحكومات الإسلامية مهتمة بذلك، من خلال إنشاء مؤسسات خاصة ذات إمكانيات وقدرات تقوم باستطلاع آراء جميع المجتهدين من علماء الأمة المتفرقين في بقاع الأرض، ومن خلال الاستفادة من التقنيات الجديدة في عالم الاتصالات. المسألة الثالثة: المجامع الفقهية، وهيئات الافتاء في الدول الإسلامية تلعب المجامع الفقهية الإسلامية، وهيئات الافتاء دورا مهما في محاولة جمع كلمة علماء الأمة، وتضييق هوة الخلافات بينهم من خلال ما تقوم به من اجتهاد جماعي مهم، ومن الأسئلة المطروحة لدى البعض اليوم ما يلي: ما قيمة قرارات هذه المجامع وتلك الهيئات؟ وهل هي بمثابة إجماع لا يسوغ لأحد الخروج عنه؟ أم أنها مجرد رأي لعدد من العلماء لا يمثلون الأمة كلها؟ والجواب عن هذه التساؤلات يمكن استخلاصه من تفاصيل ما تقدم من عرض حول الإجماع، وشروط انعقاده، وعليه يمكن القول بأن قرارات هذه المجامع لا يمكن أن تعد إجماعا بمعناه الأصولي، والذي يلزم اتباعه، وذلك لأنها لم تستوف شروط الإجماع المقررة سلفا، خاصة إذا علمنا أن هذه المجامع وتلك الهيئات تتكون من ممثلين – فقط- لبعض الدول والأقطار الإسلامية ولا يشارك فيها جميع مجتهدي الأمة قطعا، هذا من جهة، ومن ناحية أخرى فإن القرارات التي تصدرها إنما تتوصل إليها في كثير من الأحيان عن طريق التصويت من المشاركين، ويتخذ القرار بقول الأغلبية مع وجود أعضاء آخرين غير متفقين معهم. إذا علمنا هذا فيجب علينا أن نعطي هذه المجامع حقها، فهي وإن لم تكن إجماعا إلا أنها في أقل أحوالها تمثل رأي عدد كبير من علماء الأمة، خاصة عندما يتفق جميع الأعضاء، وجميع المجامع على قرار معين، فلا شك أن ذلك القرار إن لم يكن إجماعا على قول الجمهور، فلا يعدو أن يكون اتفاق الأكثر مع مخالفة الأقل، هذا إذا علم من يخالف فيه من العلماء الآخرين، فإن لم يعلم مخالف بعد التأكد من علم جميع المجتهدين به فهو إجماع استوفى شروطه وأركانه ووجب الأخذ به، وحرمت مخالفته. وبهذا نأتي إلى ختام هذا العرض الموجز والمقتضب عن الإجماع الإصولي، وقد جاء فيه الحديث عن تعريف الإجماع، وبيان مرتبته في سلم الأدلة الشرعية، وشروط انعقاده، وحكم مخالفته، فوائده والحكمة من اختصاص هذه الأمة به، ومسألة تطرق النسخ له، وإمكان الإطلاع عليه، خاصة في هذا العصر، كما تطرقنا فيه لدور المجامع الفقهية، وكل ذلك بشكل موجز لم أدع فيه الكمال، بل أعترف بالقصور، وأقل ما يمكن أن يستفيده القارئ لهذه السطور الرغبة في الاستزادة من هذا الموضوع المهم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه. المصادر والمراجع: 1- ابن أبي شيبة، المصنف. 2- ابن تيمية، مجموع الفتاوى. 3- ابن حزم، الأحكام. 4- ابن قدامة المقدسي، روضة الناظر. 5- الزبيدي، تاج العروس. 6- الأزهري، تهذيب اللغة. 7- الآمدي، الإحكام. 8- البزدوي، كشف الأسرار. 9- البيهقي، السنن. 10- الترمذي، السنن. 11- الجرجاني، التعريفات. 12- حاشية العطار على شرح الجلال المحلى على جمع الجوامع. 13- الرازي، المحصول. 14- الزركشي، البحر المحيط. 15- السرخسي، أصول السرخسي. 16- سعدي أبو حبيب، القاموس الفقهي. 17- الشبكة الإسلامية: www.islamweb.net نظرة في الإجماع الأصولي. 18- الشيرازي، اللمع. 19- الغزالي، المستصفي. 20- محمد قلعجي، معجم لغة الفقهاء. 21- النسائي، السنن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق